المقالات

محمد قاسم أمين تركستاني.. عطاء لا ينقطع

2025-06-20
A-
A+

محمد قاسم أمين تركستاني.. عطاء لا ينقطع

همس في أذني وهو متكأ عليّ في طريقنا عبر سُلّم الدرج الذي يقود إلى مكتبه وقال بصوت متثاقل يحمل همّ السنين "كلهم ماتوا".. فهمت منه ما يريد قوله، فقلت له: البركة فيكم يا سِيدي، فابتسم وقال: "عملنا ما في وسعنا"

هكذا كان لقائي الأول معه في مكتبه بالمسفلة بالكُنكارية بعد معاناة طويلة حتى التقي به رحمه الله، حيث بدأت رحلتي بالتعرف عليه من خلال سيرة وترجمة من ثلاث صفحات عن جدي لوالدتي الشيخ "محمد موسى تركستاني" صاحب كتاب "ألوغ تركستان فاجعه سي" حصلت عليها قبل عام من خالي كُتبت قبل حوالي 30 عاماً، وقد كتبها ووقّع في آخرها "محمد قاسم أمين" ويظهر أنه كتبها منه شفاهة, وظللت أتتبع هذا الاسم وأسأل عنه جميع من أقابل من التركستانيين ولكن بدون جدوى، لا أحد يستطيع أن يوصلني إليه، ثم تيسر لي الحصول على بعض كتبه واستطعت أن أربط بين هذا الاسم وبين اسمه على كتبه" محمد قاسم أمين تركستاني" فسألت ولم يستطع الكثير أيضاً أن يعرفوني به، كل ما استطعت أن أتوصل إليه أنه كبير في السن وأنه يسكن بالمسفلة، حاولت التواصل مع عدة أشخاص من التركستانيين من بلده كاشغر المقيمين بمكة المكرمة، وللأسف لم يزيدوا على ما عندي من معلومات.

ولما تقدمت خطوات في إعدادي لكتابي "علماء ما وراء النهر" وقاربت من تبييضه النهائي عزمت وتوكلت على الله وقررت أن أسافر لمكة المكرمة وأجرّب بنفسي لعلّي أجده وليس معي هاتفه أو جواله أو عنوانه غير الذي ذكرته أعلاه وكنت أحسب أن المسفلة حارة صغيرة أعبرها (كرمية حصاه)، فبدأت بالمسجد الحرام واستهللت بعمرتي ثم أحللت وتوجهت مباشرة إلى المسفلة وبدأت أسأل من الجهة القريبة للحرم عن اسمه ولم يعرفه أحد فقد أصبحت الدكاكين مؤجرة للعمالة من شبه القارة الهندية والبيوت نزلا، وفنادق، حتى وصلت لآخر المسفلة قريباً من الكوبري (وهي مسافة طويلة) وتعرفت على بعض دكاكين بلديه من كاشغر يبيعون اللؤلؤ والإكسسوارات، ولم يعرفوه أيضاً وظللت هكذا لأكثر من ثلاث ساعات حتى دخلت في إحدى الحواري الضيقة ووجدت بقالة صاحبها "حاجي كاشغري" قال لي أظنك تسأل عن صاحب الكتب والمؤلفات (طبعاً من شدة الفرح والتعب كدت أقبله وأحضنه لكني أمسكت نفسي) وعندما وجد ما بحالي من التعب ما وجد، استضافني بعصير بارد من بقالته جزاه الله خيراً وأجلسني ووصف لي موقع بيته بالتقريب، شكرته كثيراً ثم انصرفت مسرعاً نحو الوصف حتى وصلت لمسجد الكنكارية وقد أصبحت المنطقة شبه نائية وكان بيته مجاوراً للمسجد صغيراً قديماً من دورين ويبدو مهجوراً، حتى جيرانه من أصحاب الدكاكين أكدوا لي أن شيخاً كبيراً كان يسكن فيه لكنه انتقل إلى منزل ابنه بعيداً. (طبعاً أُسقط في يديّ) وجعلت أندب حظي وقلت قد باءت رحلتي بالفشل، فجلست من التعب على عَتبة باب داره القديم متذمراً يائساً، لكن المفاجأة وقعت.. فبعد دقائق توقفت سيارة قديمة أمام البيت وإذا بشيخ كبير يجاهد نفسه كي ينزل منها وهيئته تركستانية صِرفة لكنه لم يكن يشبه صورته التي معي وهو في بداية الثلاثينات من عمره! والتي حصلت عليها من أحد كتبه حفظه الله. المهم أنني قفزت نحوه وسلمت عليه وسألته عن اسمه فابتسم وعرّفته عن نفسي فعرف جدّي وهزّ برأسه (فالشيخ لديه صعوبة في السمع والنطق رفع الله عنه) وأمسك بيدي وتوجهنا نحو مكتبه بالأعلى.

قابلت الكثير من الرجال والشيوخ وكبار السن من جماعتنا خلال إعدادي كتابي الأخير وكانت تجربة ميدانية بمعنى الكلمة كي أجمع ما أستطيع من معلومات أوثق بها كتابي، لكن سعادتي لا توصف بلقاءي بهذا الشيخ وشعوري نحوه لا أستطيع أن أرقمه بنفس الأحاسيس التي في صدري، فقد قرأت له الكثير قبل أن ألتقي به وأعجبت بخطه وفنه ونضاله وجهاده وعمله ودأبه، قرأت سيرته عبر مقالاته وصفحات كتبه وسطور أوراقه، وشاهدت جهوده عبر كل السنين من خلال حروف كلماته التي رصدها من واقع ماضيه الأليم الذي عاشه وتجاربه التي خاضها. كانت الابتسامة لا تفارق وجهه طيلة لقاءنا وسمح لي بتصفح جميع مكتبته الغالية والنفيسة، وسلمني الكثير من أوراقه ودفاتره الخاصة القديمة لأتصفحها. مكتبه هذا كان في يوم من الأيام مكان الأحبة والأصحاب وملتقى الرجال والخلان ومهوى القلوب والأفئدة، شاهدت الصور القديمة لمكتبه في وقت عِزّه وفيها الوفود التي كانت تزوره من أقصى بقاع الأرض وأدناه، معتمرين وحجاج وأدباء وشيوخ وسياسيين وسفراء وتجار وغيرهم، كان كمقهى الشعراء والأدباء ومنتدى الحبايب والزوار، أما الآن فقد أصبح الغبار يعلوه، وعُتّة الكتب تكسوه وتغزوه. جلس رحمه الله فيه وحيداً يتذكر الماضي الطويل البعيد، لا هاتف يرنْ ولا جوال يزنْ ولا خلان تحنْ، تفرق الأحبة وظل وحيداً كما قال لي "ماتوا كلهم".

محمد قاسم أمين بعد أن هاجر لم يشتغل بالتجارة فحسب ونسي قضيته، بل استمر بالنضال والجهاد، استمر يناضل بقلمه وألف العديد من الكتب والرسائل، كتب الكثير من المقالات في الدوريات والمجلات والصحف، حضر الكثير من الندوات والمؤتمرات للدفاع عن قضية وطنه الأول وتحريره من الغزاة، شكل الكثير من الجمعيات واللجان وفرق العمل من أجل اسماع العالم عن قضية تركستان، سافر إلى الكثير من البلدان وقابل الكثير من الشخصيات البارزة والمناضلة في خارج السعودية للتنسيق معهم لرفع الظلم والجور عن المسلمين في تركستان الشرقية، لم يكل أو يتعب أو يستسلم، لم يهدأ أو يسكن أو يستريح عن اكمال مسيرته من أجل تحرير تركستان، وما زال رحمه الله بالرغم من ظروفه الصحية ماسكاً بقلمه مشمراً في ساحة المعركة شعاره شعار الكشافة "كن مستعداً".

محمد قاسم أمين ليس شخصية اعتيادية كتبت ثم تلاشت، محمد قاسم أمين كان وهو في الثمانينات من عمره يجاهد بقلمه، وعلمه وفكره، ويناضل من أجل الحرية، وكان يعيش راسخاً فوق مبادئه الصارمة وقيمه الراقية. فقد طلبت منه أن يرسل لي بعض المعلومات عن أحد العلماء الذين أعرف أنه كتب عنه سابقاً وتركت فوق مكتبه ورقة بها عنواني البريدي العادي فأجابني بعينيه التي لمعت وأومأ لي بالإيجاب، ولأني أعرف أنه منهك ولا يستخدم الايميل أوالهاتف أو الجوال لم أثقل عليه في الطلب أكثر من مرة واحدة وتركته وعدت إلى المدينة المنورة، لكنه حفظه الله أبى إلا أن يمارس ما تعوّد عليه من الحفاظ على الوعود والعهود والتمسك بالقيم والمبادئ النبوية الراقية والعالية، فتفاجأت برسالته في صندوق بريدي بعد أسبوعين بعدما كنت قد نسيت الموضوع لمعرفتي بظروفه الصحية.

هكذا يا إخوتي وأخواتي يكون الكبار ويكون الالتزام مع الناس بالوعود والمعاملات الإنسانية، وليس بالتجاهل والنسيان وخلف الوعود.

محمد قاسم أمين الإنسان كان مدرسة فريدة في الحياة والعلم والكفاح، وكان يكافح من أجل الحرية والمبادئ والقيم التي عاش وتربى عليها، فهل نحن نمثل امتداداً له ولتاريخ كفاحه ونضاله أم سيبقى هو امتداداً لنفسه فقط؟

رحم الله الشيخ وأجزل له الثواب والجزاء وأنزل عليه الرحمة والمغفرة، وأسكنه فسيح جناته...

منصور بخاري

المدينة المنورة

2317d6b9-622a-4aeb-97b0-9be87407c33a